التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أنا والأخرون.


مشاركة أحزان الناس؛ لم تكسبني خبرة ودراية وحصانة كما يظن البعض؛ بل جعلتني أكثر شفقة على الإنسان؛ جعلت قلبي أكثر رقة ورحمة ولين؛ ورفعت سقف توقعاتي عن رؤوسهم؛ وعلمتني أن ثمة أمور وأحوال غير قابلة للنقاش؛ أو لعمليات حسابية أو نظريات أو تنظيرات أو تحليلات أو أحكام قانونية؛ مثل المشاعر مثلاً ..


فجعلتني أستمع لهم بأذن قلبي؛ وأرى الجميع عارياً ..


هناك شرياناً رفيعاً يجمع كل أبناء آدم على وجه الأرض؛ شرياناً كالخيط الدقيق الرقيق؛ ورغم رقته إلا أنه متين؛ وصل القلوب ببعضها البعض؛ جعلها تتبادل وتتشارك الإحساس؛ دون بوح وعلانية ..


على مائدة الألم ليس هناك جائعاً أو محروماً؛ ولن تجد من يطل بعيونه في صحن الأخر متمنياً نصيبه!


جميعنا نأكل في وجبته المعدة بتوابل تناسب معدته "الله رحيماً حتى في الألم" يؤتيك من حيث يستطيع قلبك ..


نمضع الألم دون تلذذ ثم نقذفه إلى قلوبنا بماء اليقين والصبر؛ يثقلنا الحديث؛ فنتبادل النظرات الدامعة؛ والإيماءات الحزينة؛ وكأننا نهمس لبعضنا البعض "يا عزيزي كلنا في الألم سواسية" 


الألم دائماً يساوي بين البشر؛ يخلع عن رؤوسهم القبعات؛ وعن أكتافهم الشارات؛ وعن أسمائهم الألقاب؛ ومن آفلته حسن الحظ اليوم من فكي وحش الألم؛ غداً تمضغه أنيابه في صمت!


جميعنا إمتلئت قلوبنا بالآلام وتقرحت؛ يذوب الألم مع الوقت؛ وتتحول أثاره إلى كبسولة معبئة بالدرس المستفاد ..


العين الثالثة التي تفتحت في ضميري؛ لم تخلق لأنظر لأحدهم من أعلى والآخر من أسفل؛ بل خلقت لأهدي بها نظرة محبة وشفقة للإنسان وتوقيراً؛ أنه رغم الجنون الذي يحيط به في كل مكان؛ لازال يحافظ على إنسانيته وكرامته ..


يحاول صد القسوة عنه وعن من يحب؛ بكل ما أوتي من حنو وطيبة؛ أن يزرع في قلوب الناس الحزينة وردة؛ وأن يرتل آيات السلم في ساحات المعارك ..


الكواليس التي لا يراها ولا يعرفها أحد عنك؛ تصنع منك إنسانا جديداً؛ إنساناً كنت تقسم بأن لا تكونه أبداً؛ والآن أصبحت عليه!


تعتقد أنك قالباً من الرخام؛ أو قطعة حجر منسيه في الصحراء؛ وتحكم على روحك بالجمود حتى الموت؛ وتحرم نفسك أن تعيش انسانيتك بكل عفويتها؛ أن تغوص في قاع التجربة؛ فتخطأ مرة وتصيب مرة فتتعلم الغفران وتتشكل من جديد ..


رحم الأم لا يشكل وجدانك أو قناعاتك أو أخلاقك؛ أو يصنع ضميرك؛ هو يلفظك ناقصاً ؛ لتبدأ الحياة دورتها وتكمل نموك وتغذيتك ..


أنت في رحم الحياة لست محل شك في مشروعيتك؛ كما في رحم الأمهات؛ آتيت إنساناً وسترحل إنساناً تاركاً بصمة تشهد على مرور قلب ظل يقاوم القبح حتى رحل ..


بورسعيد | ١٦ سپتمبر ٢٠٢٠ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حديث ذات ٤٦

الوقت، له أفاعيل عجيبة يرفع ويخفض مقامات الناس في قلبك، ثم يرفع قيمتك على الجميع عندما تدرك قيمة نفسك وتثقلها بما يليق بها. يمكنه أن يساعدك على النسيان، وعلى التشافي، وعلى بناء نفسك من جديد، يمكنه أن يساعدك أن تخرج من الدوائر السامة لكن بهدوء، الوقت كالرجل الأنيق كلاسيكي الطبع يتعامل مع الأمور بترو وحكمة وصبر بالغ، ينظر لك بطرف عيونه وبين شفتيه سيجار، تأكله شظاياه ببطء فتظن أنه ليس مهتما، لكنه الوقت يا صديقي ليس عليه أن يهتم لأمرك، هو يقرص أذنك مرة واحدة ثم بعدها تدرك قيمته. لذا لا تتقبل من أحد معايدة في الصباح الثاني ليوم عيد ميلادك، ولا تتقبل العزاء بعد ثلاث، وليس فرضا عليك بعد مرورك برحلة العناء والتعب ثم التشافي أن تفتح ذراعيك لمن لم يمسح على رأسك وأنت مريضاً! لكن من يهديك جزء من وقته، هو يهديك جزء من عمره، بادله الوقت والعمر والمشاعر، هكذا هي الحياة كؤوس متبادلة ..          بورسعيد | ٢٢ أغسطس ٢٠٢٤ م

الحب ٣

 لم أجد فِعلا رقيقا يليق بالمحبين بعد تبادل كلمات الغزل وأشعار الحب واللوم والإشتياق؛ مثل الخبيز وصنع الحلوى .. حالة عذبة رغم التوتر وربكة التجهيز تشبه خجل اللقاء الأول بين قلبين جمعهما الحب والرغبة؛ وكان الفضول ثالثهما يقلب كل منهما في مزاچ الآخر بمعلقه خشبية على نار هادئة ليكتشف كل حبيب مذاق وذوق محبوبه .. أحدهم يفلح ويصنع شطائر منثورة بالمكسرات محشوه بالعسل؛ والآخر يجتهد ويقدمها خالية من الحشو مغلفة بطبقة ذهبية من لهيب الإنتظار؛ وكلاهما في رواق العشق تحفهم رائحة الإشتياق وآثار الشغب والإكتشاف ..

حديث ذات ٣١

أنا أشبه البحر، يهدأ ويثور وحده، يحمل أسراره في قاعه المظلم، يتمنى الكثير لو كان يجرؤ على الغوص إلى قلبه، ليكشف ما تحت زرقته، لكنهم يخشون من الغرق .. يكتفون بالوقوف بعيداً؛ ليسترقوا النظر إليه، ويحاولون فك طلاسم أمواجه، ودائماً دائماً لن يفلح أحد. يدركون أن قلبه واسع وبلا أرض، يحمل الكثير من الأسرار والعوالم، والأصداف واللؤلؤات الحية، تموت فقط إن أمسك بها أحدهم .. يد البشر تجيد الإفلات بعد انتهاء الشغف بالأشياء وربما الأشخاص .. يدرك البحر أن لؤلؤاته تموت إن تركته وخرجت للنور، ورغم حزنه لن يبخل! البحر يطفئ غضب القلب، لكن لا أحد يعلم ما في قلبه، الجميع يأتيه من كل فچ عميق، ليلق بخيباتهم وانكسارتهم، ويرحلون بهدوء .. ويتركون ضجيجهم في قلب البحر، ويبدأ ضجيج أخر، لكن في قلب البحر المسكين .. يكتفي البحر بأن يمنح العالم مزاجاً رائعاً ولونا بهيجا، ويخرج من خير قلبه لمن حوله، ويعود وحيداً ..  تهدأ أمواجه بالليل، عندما تبتعد الأقدام بعيداً عنه، وترسل النجوم قبلاتها الناعمة له، فيسكن، ويخلع عنه رداؤه الأزرق، ويبدله بأسود حزين، يليق بقلب لن يفهمه أحد على سطح الأرض .. بورسعيد | سبتمبر ٢٠٢١