التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بريد نون ١

 أرسل لي أحدهم رسالة، صاحب الرسالة كان حبيباً يوماً ما لصديقتي المُقربة.


يطلُب مني أن أجعلها تُسَّامحه، أن تغفر له قسوته، أن تعفو وتصفح لتبدأ معه من جديد، أن تتذكر ذكرياتهم الحُلوة، وسنواتهم الطويلة، أن تتذكر الأحلام والأُمنيات!


قرأت رسالته وأنا أشعر بالغضب، بعد أن ختمها برجاء، أن لا أجعلها تقرأ رسالته المحشوة بالإنكسار والحنين، الرجال لا تنكسر، الرجال لا تحن ..

الرجال يعودون بعد غياب ولهم الحق!


يعُود الرجل بعد أن تقطع أُنثاه طريقٍ طويلٍ من الألم والحيرة، وبعد أن يُمزقها الحنين الأسود حتى تتغلب عليه، يعُود بعد أن أيقن أنها أصبحت أقوى، وأنها توقفت عن عقاقير النسيان ..


وبدأت الحياة من جديد، حياة لا تشبه الأولى، ربمَّا رتبة ولكنها خالية منه، خالية من الإنتظار واللهفة والرغبة، ومن الخذلان ..


هو لا يعلم عدد مرات الإشتياق، وليالي الوحدة والبرد والألم، والتساؤلات الحائرة التي لا إجابة لها.


لا يعلم المُّكالمات الطويلة التي كانت تحدُث بيننا فأجذبها للحديث عن أي شيء، ثم فجأة يتحول صوتها لأنفاسٍ ضعيفة وهي تتساءل "لماذا هجرني" فأبدأ معها شوطاً جديداً من أشواط النسيان ..


لا يعلم كيف تبدّلت صديقتي من قلبٌ مُحبٍ للحياة إلى قلبٍ يتمنى المَّوت في كل لحظة، شخصٍ كاره للعالم، وكافرٍ بالحُب.


هو لا يعلم أنه عندما بحث عن بديل عنها بأخرى، وبصداقاتٍ جديدة، كانت هي تخضع لجلسَّات العلاج الجمَّاعي فتزداد غُربة وحيرة، لا يعلم بكاؤها عندما كانت ترى أحواله جيدة بدُونها، وهي تُراقب من بعيد، وهي تقرأ أحاديثهُم الأخيرة، وهي جالسَّة على طاولة مكانهم المُفضل تنظر للكُرسي الفارغ أمامها، وتشرب من كأس الوحدة على مهلّ، ثم تعود لي في أخر اليوم مُنهكة، ثم أبدأ معها شوطاً آخر من أشواط النسيان ..


أخبرني في أخر الرسالة أنه يريد أن يعتذر منها على الوقت الذي مر عليها بدونه، وأقسَّم لي أنه سيعُوضها، يُريدها أن تنسى وتغفر له خيانته الغير مُبرره، وأن تمنح له الثقة من جديد!


يقول أنا لستُ ملاكاً ولا قديساً، نعم هو ليس ملاكاً ولا قديساً، فلمَّاذا يُريدها ملاكاً أو قديسَّة، الغُفران فقط لله، والخذلان سمة البشر، الله لا يخذلنا أبداً، فقط البشر يفعلون، وخصوصًا الأقربون منهم، كلمَّا قرُّبت المَّسافة كلمَّا كانت الضربة أصوب، كلمَّا كان الشخص عزيزاً، كلمَّا تركت الضربة علامة لنْ تُنسى أبداً.


صديقتي على أعتاب النسيان، بل تداوت وتعافت، الطبيب نصحها بأن نصف التشافي بأن تصنع ذكرياتٍ جديدة، فتركت البُكاء على الأطلال، وأصبحت تُغني وتكتب وتسافر هُنا وهُناك، تحضر حفلات، تصنع صداقات، ونجاحات، وتصالحت مع نفسها أكثر ..

ركلت كل ما تبقى من ذكرياتها بقدم وبالأخرى تخطو إلى حُبٍ جديد، حب ليس فيه خذلان ولا إشتياق ولا عذابات، حب الذات، الذات التي هي أولى بالحُب عن سارقون العمر والأحلام ..


ربما قطعت من الوقت والجهد الكثير لتعود، الخذلان ُيبدد الرُوح والعمر ويهلِك كل ما فينا، ولكن ليس هناك شيئًا آخر يُعلمنا كيف نكون أقوى إلا هو، وليس هناك شيئًا آخر يجعلنا نؤمن بأنفسنا أكثر إلا هو، بعد كُفر المقربون بنا، وبعد أن كانوا كل إيماننا ويقيننا على الأرض

الآن ..

أصبح نهارها أفضل عندما أصبح خالياً من إنتظار رسائلك الصباحية، وليلها أكثر سحراً طالما في صُحبة الموسيقى والقمر، وأشخاصاً رائعون.


بورسعيد | يوليو ٢٠١٧ 




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حديث ذات ٣٨

بعد منتصف الليل، أنت وحدك تماماً تشاركك السهرة دميتك، وكتابك الذي تحاول أن تقرأ فيه، فتتلاشى السطور وتذوب حبكة الرواية منك، تحاول أن تفر من تلك الأفكار التي لا تأتيك إلا في تلك الساعة! الجميع في سبات عميق، وأنت تحاول أن تقنع نفسك أنك بخير، فتضم دميتك الصغيرة إلى صدرك وتدعي النوم .. بالأمس، الأمس البعيد، عندما كنت صغيراً كان هذا يهون عليك كثيراً عندما كنت تظن أن دميتك تسمع وترى وتشعر وتشاركك قراراتك الهامة، فتشعر أنك لست وحيداً حتى لو لم يكن لك من الأصدقاء والأخوة الكثر. أما الآن، أنت كبير، كبير أن تعترف بأحزانك للأصدقاء، وأن تذهب لفراشك مبكراً - وأن تضم دميتك إلى صدرك، كبير لدرجة مثيرة للشفقة، حتى بعد أن رحل الجميع عنك، رفضت الدمية الجماد أن يبلى قماشها، وأن تلفظ حشوها، فتتلاشى عنك مثل الجميع، واختارت أن تبقى بجوارك، تنتظرك أن تخلع عنك رداء الكبار، وتضمها إلى صدرك ببراءتك القديمة ربما تنام سعيداً .. ٢٢ أكتوبر ٢٠٢١ | بورسعيد 

بنفسج ٢

في واحدة من المواقف التي لن أنساها أبدا .. كنت في إحدى الشركات أسدد فاتورة تليفوني وكانت بجواري سيدة منتقبة؛ تنظر لي بدقة وتطيل إلي النظر، شعرت بالحرج، وشعرت أن بي شيئا ليس مريحا أو صحيحا.  نظرت لنفسي جيدا، أنا محتشمة، وملابسي فضفاضة، أسأل نفسي بغيظ لماذا تنظر لي هذه النظرات! ثم تجرأت: في حاجة؟  أبدا يا حبيبتي: انتي مصرية؟ ابتسمت لها وهززت رأسي بالإيجاب  ثم جلست لأنتظر دوري فجلست جواري  نظرت لها دون أن تشعر وجدت حجابها باليا عبائتها ممزقة، حذائها ممزق، ثم تمزق قلبي لما رأيت. أنا عندي 55 سنة وعندي ولد واحد بس مطلع عيني انا أرملة ونفسي اتجوز تاني بس هو مش راضي، جالي ناس كتير مناسبين وكنت برفض علشانه، لبست النقاب دا غصب عني أنا جميلة جدا ع فكرة، بس أبوه كان بيغير عليا وهو كمان اتعلم منه الطبع دا، والله يا بنتي أنا في عذاب ومعرفش أنا بحكي لك ليه! سردت حكاية كاملة من العذاب والتملك والسيطرة ونكران الذات .. تبدو فعلا جميلة، وبسيطة، وطيبة القلب .. لكن ما لفت نظري وشغف قلبي طفولتها المكبلة التي شعرت بها دون أن تتحدث.  سددت فاتورتها ثم انتظرت قليلا بالخارج كنت لا أعلم أنها تنتظرني.. سددت بدوري

حديث ذات ٣٧

تسألني سيدة: لماذا تفضلين المكوث ببيتك طوال أيام الأسبوع؛ بينما الخروج لمكان جديد أو السفر؛ أو الترجل في حديقة واسعة؛ أو حتى الجلوس في مقهى بسيط؛ أفضل؛ ووسيلة من وسائل التجديد والتغيير؛ وضخ دماء جديدة لحياتك الراكدة!  أجبت: في بيتي أنا حرة؛ كل الأماكن البعيدة والقريبة رغم جمالها واختلافها هي للجميع؛ الجميع يشارك الجميع لحظاته الخاصة؛ يمكن لأحدهم أن يرمقني بفضول وأنا في لحظة بكاء؛ أو تتودد احداهن لي لمجرد الفضفضة؛ بينما ذاتي في لحظة فضفضة غير مسموعة .. سقف بيتي يغطيني؛ أما في الخارج أنا عارية؛ ولو غطى جسدي كله سواد الغرابيب .. ذات مساء؛ كنت جالسة وحدي في احدى المقاهي الراقية البعيدة؛ خلف شاشة اللاب توب؛ غارقة في كتابة نص عنيد؛ وعيوني ترفض البكاء؛ مرت ساعة وأنا في حالة توسل للحروف أن تتصالح وتتضاجع على سطور الصفحة؛ حتى ضجرت .. نظرت للجرسون أن يقترب؛ لآسد فاتورة ساعة من العمر كانت ثقيلة وجافة؛ شربت على نخبها قهوة مره .. اقترب خطوتين؛ وبصوت خفيض  الأستاذ دفع يا فندم ثم أشار برأسه ليساره  أنظر لأجده شخصا غريبا عني لا أعرفه؛ بخطوات وقورة؛ اقترب مني ومد يده وعرف نفسه .. نظرت ليده الممدودة نحو