التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ذاتي ما بين الشغف والعمل ٢

 لدي الكثير من القصص التي مررت بها تجعلني في حالة كتابة دائمة؛ كنني أفكر؛ إن كتبت عنها خلدتها وعاشت أكثر مني؛ وإن أهملتها سقطت مني؛ وسأفقد إرثي من الحياة!


أظل غارقة في هذه الحيرة حتى تنتشلني الكتابة بأصابعها السلوفان؛ وتلق بي على أوراق بيضاء ؛رائقة كسحب الربيع، ثم أحولها بسطوري لشتاء لا ينتهي ..

الحيوات التي عايشتها؛ والخناجر التي دست في لحم قلبي، ظلت غائرة بعد أن كتبت عنها، وأنا أريد الفرار والنسيان.

أمارس الفرار طوال وقتي، حتى يمسكني القلم ويعصرني، فأفرز كل عرقي ودمي على الورق؛ ثم أصير أكثر خفة وأطير ..

أكتب لأنني قُدر لي أن أعيش بقلبٍ كسير، وعقلٍ لا يتوقف عن التفكير، وجسدٍ كالأرض المنهكة التي شن عليها حروب دامية ..

أكتب لأنني أميل للأفعال الطيبة، والكتابة فعل طيب يليق بي ..

أكتب لأنني وحيدة، والكتابة صديقتي النبيلة، وحبيبي اللطيف الذي لم يتركني يوما بل يفاجئني بزياراته الغير متوقعة دائما ..

يرحلون أصحاب الوجوه المتلونة، ثم تأتيني الكتابة صاحبة الوجه الواحد، تمسح على رأسي بهدوء هامسة، أُكتبِ يا نهال ..

لا أكذب إن قلت أنا أُعيد التعرف عليّ عند قراءة ما كتبت في ليلة كانت شديدة الظلام ..

الأمر يثير حزني وسعادتي وإخفاقي وزهوي ثم سكوني.

الخوف يلجمني، والكتابة تحررني من لجامه، فتجعلني حافية القدمين، وعارية من الألم الذي يكسو لحمي وعظمي ..

أكتب لأنني لا أميل لزيارة طبيب أو صديق؛ ولأن لدي كبرياء قاتل، أخلعه فقط عند الكتابة إذا حضرت ..

أكتب لأن رئتين للتنفس لن تكفيني، ولأن لدي الكثير لأكتب عنه ..

لم أختار الكتابة يوما، بل هي التي فعلت؛ أصبحت هي بوحي ورقصي وبكائي وضحكي وابتهالاتي وصلاتي ..


تتدفق الكتابة من رأسي وأنا في حالة حزن، وعندما أشعر بالوحدة؛ لأبحث عن صديق لا يمل، عندما أخذل أو أخذل، لأبحث عن غفران لي ولمن أحب، ولأبدأ من جديد، وعندما أبحث عن حل لتلك المسألة التي لا أجد لها حل منذ سنوات. 

الكتابة تمنحني ما لم يمنحه لي الأحبة.

صقوك من المحبة والراحة والغفران والسعادة رغم الألم أحيانا، تمنحني أبا عمره ألف عام فلن يصيبه مرض أو هذيان، فيتركني وحدي ويموت.


تمنحني حبيبا طيب القلب، يسكب على روحي شلالات من الأمان، ويترك لي قصيدة شعر ووردة كل صباح، ويراقصني في المساء حتى أسقط بين يديه.


تهب لي صديقا رائعا، ليس ك من عاهدتهم من قبل على أرض الواقع، لكن صديقي الخيالي يأتيني عندما يعرف من ملائكة الوحي أنني وحيدة، يأتي ليترك لي الكثير من الونس والحواديت.


تهديني وطنا لا ينقلب علي، ولا يثور، ولا يسقطني في هاوية المرض والفقر، كل الطرق في أرضه تصلني للحياة وليس للموت، وطنا يجعلني أتمنى لو أفني ما أملك من عمر وأستشهد الآلاف المرات من أجله.  


أكتب لأن رئتين للتنفس لا تكفي قلبي ليعيش، الكتابة ك ظل شجرة في صحراء لا روح فيها ولا ماء، تمنحني الظل في يوم حار، وتلقي على رأسي الرطب العذب في ليلة يشتد فيها جوع روحي للبوح على الورق، ولو لم يقرأ أحد.


أكتب لأقرأ نفسي قبل أن يقرأني أحد، لأواجه ضعفي وخوفي وأحزاني، وأتحرر من أوهامي، وأقتل هؤلاء الذين قتلوني بإسم الحياة، فأخلدهم للأبد دون أن أشعر، وأقتلني مرة أخرى ..



بورسعيد | ديسمپر ٢٠٢١



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حديث ذات ٣٨

بعد منتصف الليل، أنت وحدك تماماً تشاركك السهرة دميتك، وكتابك الذي تحاول أن تقرأ فيه، فتتلاشى السطور وتذوب حبكة الرواية منك، تحاول أن تفر من تلك الأفكار التي لا تأتيك إلا في تلك الساعة! الجميع في سبات عميق، وأنت تحاول أن تقنع نفسك أنك بخير، فتضم دميتك الصغيرة إلى صدرك وتدعي النوم .. بالأمس، الأمس البعيد، عندما كنت صغيراً كان هذا يهون عليك كثيراً عندما كنت تظن أن دميتك تسمع وترى وتشعر وتشاركك قراراتك الهامة، فتشعر أنك لست وحيداً حتى لو لم يكن لك من الأصدقاء والأخوة الكثر. أما الآن، أنت كبير، كبير أن تعترف بأحزانك للأصدقاء، وأن تذهب لفراشك مبكراً - وأن تضم دميتك إلى صدرك، كبير لدرجة مثيرة للشفقة، حتى بعد أن رحل الجميع عنك، رفضت الدمية الجماد أن يبلى قماشها، وأن تلفظ حشوها، فتتلاشى عنك مثل الجميع، واختارت أن تبقى بجوارك، تنتظرك أن تخلع عنك رداء الكبار، وتضمها إلى صدرك ببراءتك القديمة ربما تنام سعيداً .. ٢٢ أكتوبر ٢٠٢١ | بورسعيد 

بنفسج ٢

في واحدة من المواقف التي لن أنساها أبدا .. كنت في إحدى الشركات أسدد فاتورة تليفوني وكانت بجواري سيدة منتقبة؛ تنظر لي بدقة وتطيل إلي النظر، شعرت بالحرج، وشعرت أن بي شيئا ليس مريحا أو صحيحا.  نظرت لنفسي جيدا، أنا محتشمة، وملابسي فضفاضة، أسأل نفسي بغيظ لماذا تنظر لي هذه النظرات! ثم تجرأت: في حاجة؟  أبدا يا حبيبتي: انتي مصرية؟ ابتسمت لها وهززت رأسي بالإيجاب  ثم جلست لأنتظر دوري فجلست جواري  نظرت لها دون أن تشعر وجدت حجابها باليا عبائتها ممزقة، حذائها ممزق، ثم تمزق قلبي لما رأيت. أنا عندي 55 سنة وعندي ولد واحد بس مطلع عيني انا أرملة ونفسي اتجوز تاني بس هو مش راضي، جالي ناس كتير مناسبين وكنت برفض علشانه، لبست النقاب دا غصب عني أنا جميلة جدا ع فكرة، بس أبوه كان بيغير عليا وهو كمان اتعلم منه الطبع دا، والله يا بنتي أنا في عذاب ومعرفش أنا بحكي لك ليه! سردت حكاية كاملة من العذاب والتملك والسيطرة ونكران الذات .. تبدو فعلا جميلة، وبسيطة، وطيبة القلب .. لكن ما لفت نظري وشغف قلبي طفولتها المكبلة التي شعرت بها دون أن تتحدث.  سددت فاتورتها ثم انتظرت قليلا بالخارج كنت لا أعلم أنها تنتظرني.. سددت بدوري

حديث ذات ٣٧

تسألني سيدة: لماذا تفضلين المكوث ببيتك طوال أيام الأسبوع؛ بينما الخروج لمكان جديد أو السفر؛ أو الترجل في حديقة واسعة؛ أو حتى الجلوس في مقهى بسيط؛ أفضل؛ ووسيلة من وسائل التجديد والتغيير؛ وضخ دماء جديدة لحياتك الراكدة!  أجبت: في بيتي أنا حرة؛ كل الأماكن البعيدة والقريبة رغم جمالها واختلافها هي للجميع؛ الجميع يشارك الجميع لحظاته الخاصة؛ يمكن لأحدهم أن يرمقني بفضول وأنا في لحظة بكاء؛ أو تتودد احداهن لي لمجرد الفضفضة؛ بينما ذاتي في لحظة فضفضة غير مسموعة .. سقف بيتي يغطيني؛ أما في الخارج أنا عارية؛ ولو غطى جسدي كله سواد الغرابيب .. ذات مساء؛ كنت جالسة وحدي في احدى المقاهي الراقية البعيدة؛ خلف شاشة اللاب توب؛ غارقة في كتابة نص عنيد؛ وعيوني ترفض البكاء؛ مرت ساعة وأنا في حالة توسل للحروف أن تتصالح وتتضاجع على سطور الصفحة؛ حتى ضجرت .. نظرت للجرسون أن يقترب؛ لآسد فاتورة ساعة من العمر كانت ثقيلة وجافة؛ شربت على نخبها قهوة مره .. اقترب خطوتين؛ وبصوت خفيض  الأستاذ دفع يا فندم ثم أشار برأسه ليساره  أنظر لأجده شخصا غريبا عني لا أعرفه؛ بخطوات وقورة؛ اقترب مني ومد يده وعرف نفسه .. نظرت ليده الممدودة نحو