التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عزيزتي نون ٣

عزيزتي نون. 

كيف حالك؟

لقد تأخرت في الكتابة إليك؛ أذكر أخر رسالة مني إليك كانت بأحد مساءات ديسمپر ٢٠٢١ وهو معناه أنني تأخرت عاما كاملاً!


ما أسرع مرور الوقت؛ وما أسخف مرور الأشخاص على قلبك!


أعذري تأخري لم يكن أبداً الأمر متعمدا؛ لقد دهستني الحياة بأقدامها القاسية؛ وأنا أقاوم - أقاوم من أجلها - أنا أحب الحياة.


أريد أن أعيش سنوات عديدة؛ وأريد مزيد من العمر؛ اكتشفت أنني كلما بلغت عاما زادت أحلامي وتكاثرت؛ لم يكن الأمر تكالبا على الدنيا؛ أنا أريد أن أصنع جميلا قبل رحيلي؛ أريد أن أكون من هؤلاء (الذين صنعوا الجمال) لأنني عانيت من القبح سنوات طويلة؛ قبح الأشخاص - والظروف - وقبح رؤيتي.


أكتب إليك من موقع جديد غير الموقع المعتاد؛ لقد انتقلت من المدينة الحلوة الهادئة إلى القاهرة ولم أقصد أن أخبرك بمكاني أنا أقصد أن أصف لك شعوري بكلمة!


أنا في القاهرة!


أتنقل بين المواصلات حتى أطراف النهار؛ أراقب الركاب؛ والمشاه والباعة؛ هنا ما أكثر التسول؛ والسرقة؛ والاستغلال؛ والقسوة وشغل (حلق حوش) هنا لا أحد يبتسم في الصباح!


أول مجيئي كانت مشكلتي الأولى أنه لا أحد يبتسم في الصباح؛ قلتها لاحدى صديقاتي في الهاتف وأنا على وشك البكاء؛ لكنني قررت أن أحول المأساة إلى نكتة؛ نعم هي نكتة سخيفة؛ لكننا ضحكنا!


التنقل من بيئة لبيئة مغايرة تماماً؛ أشبه بارتداء ملابس ضيقة لن تمكنك من الحركة اليسيرة أو التنفس الصحيح؛ لكنها الآن ملابسك التي ترتديها؛ أي بدونها أنت عارية!


سأكتب لك عن الإستقلال الذي أصبح الشغل الشاغل لكل فتاة وامرأة تعاني من عاهات الشرق وتقاليعه!


لطالما كانت الحرية حلمي وهدفي وعقيدتي؛ أن أكون حرة نفسي وحرة رأيي وقراري؛ لم يكن الأمر سهلاً علي أو على المقربين؛ لكن كانت النهاية الطبيعية لمقاومة سنوات التدليل من قبل أهلي والتذليل من قبل الظروف ..


عندما خرجت من الدائرة نظرت إليها من بعيد؛ رأيت نفسي كعربة صغيرة الحجم مدهوسة بين عربات نقل ضخمة في منتصف طريق غير معروف؛ لا أحد يرى هرسي إلا سائقين عربات النقل؛ يحدثون أنفسهم (هو احنا لسه هاننزل عشان ننقذها) لذلك كان يجب علي خلق طريق مختلف وطريقة مختلفة - خاصة بي!


أسأل نفسي؛ لحد امتى!

العمر يمضي - وأنا عليه متحسرة؛ لقد عادت الحياة لي من جديد؛ لكنني أعيشها كما يريدها الآخرون لا كما أريدها!


كل ما تمنيته - بيت دافئ؛ تدخله الشمس في الصباح تاركة على جبيني قبلة؛ وكأنها تعتذر لي على سنوات البرد!


بيت لا يعرف عنوانه أحد؛ المضحك في الأمر يا نون؛ أن عنوان بيتي عرفه سارق!


كانت أول تحدياتي التي واجهتها هنا؛ أن يقتحم بيتي مجرم؛ ليسرق كل ما أملك - وما تبقى من الأمان داخلي!


هالة من اللطف كان تحاوطني حينها؛ تمتمت بأسماء الله الحسنى؛ وطلبت منه أن يرشدني إلى الصواب وأن أهدأ - وأن لا أبك وأن لا أنحني للخوف ..


سرت نحو اشاراته فانقضت الأمور كما أرادها الله؛ ونچوت ..


ليست دائماً تسري الأمور كما نشتهي أو نتوقع؛ هكذا علمتني الحياة؛ كما علمتني في وقت سابق أن أرفع سقف توقعاتي في البشر والأحوال حتى لا يصيبني الحزن؛ أما مؤخراً أجبرتني أن أخلع هذا السقف بيدي واحطمه تحت قدمي؛ أن أعامل الناس معاملة المفارق؛ أن لا أتعلق مرة أخرى؛ التعلق وحده يوما ما كسر عنق قلبي!


وبنفس العنق المكسور؛ أواجه الأذى - لم أصيب أحدهم مرة بجرح أو خربشات كل ما هنالك أنا أهوش؛ لم ولن يحدث أبدا أن أطيل ذراعي يوما على أحدهم - أنا أسري بين الناس واضعة قلبي المكسور رقبته بين كفوفي لأشير لمن يقترب؛ أو ربما أطلب منه على استحياء أن لا يؤذيني فأنا بقلب مكسور رقبته ..


وبقلبي المكسور استطعت أن أحب الحياة والأخرون من جديد؛ أحب الجميع لكنني أزهد فيهم!


أميل للزهد؛ ربما لأنها شقيقة توأم للحرية والحرية هي ملاذي وحقي - في الحرية نجاة لي ولهم؛ على كل حال أنا لم أندم مرة واحدة على الزهد؛ بينما ندمت ألف على الحب أقصد التعلق!


الآن أكتب لك وأنا تاركة كل شئ خلفي؛ ذكرياتي؛ علاقاتي الأصيلة؛ وأرضي؛ واخترت أن أبحث من جديد عن بداية؛ بداية أستحقها؛ بداية براقة ربما تعوضني عن كل ما فاتني؛ فدفعت الثمن باهظا؛ ارتضيت اللوم والعتاب والتهم؛ الجميع يريدني بالجوار؛ وأنا أريد أن أسيح في الأرض ..


أكره القيود الوهمية؛ أكره السلاسل التي صنعناها بارادتنا وقيدنا بها أنفسنا والأخرون؛ لطالما كان شغفي أن أكتب وأكتب وأكتب حتى أموت؛ الوقت قصير واليوم حافل بالمواقف التي تجعلني في حالة كتابة دائمة فقررت أن أكتب يومياتي على أرض القاهرة - نعم القاهرة تقهر - لكنها ألهمتني!


أنا لا أجيد الدفاع عن نفسي؛ بينما أنا محام ممتاز لأصدقائي وأهلي ومن طرق بابي؛ أدافع عن نفسي بالكتابة - أحلم بها - وأبك وأصلي وأرقص ..


لكن عندما تخاصمني أشعر باليتم؛ أشعر وكأنني تلك الورقة (المقطوعة من شجرة) الكتابة تؤنسني؛ تكشف لي حيواتي التي عايشتها؛ آلالامي التي تعافيت منها؛ معاركي التي عاصرتها وحدي؛ ضعفي وقوتي؛ سعاداتي وأحزاني لأدرك وقتها أنني امراة بحظ وفير! 


فلدي الكثير لأكتب عنه؛ لقد أحببت يوماً ما من كل قلبي؛ كنت أملك دارا لم ينغلق بابه في وجه سائل؛ وكان لدي وسادة دافئة ودفترا زرعي اللون؛ لم أتمنى شيئاً ولم أحصل عليه؛ كان الله دائما يحنن علي الحياة؛ لأنه يعلم أنني أستحق؛ هو فقط من يعرفني جيداً.


ولأنني أدركت هذه الحقيقة أحببتني بقوة؛ وبثقة؛ وبيقين ..


عزيزتي نون. 

خلقك الله لتعيشي سعيدة؛ فلا تحزني؛ ولا تبتأسي؛ اختاري دائماً أن تكوني بوجه وقلب بشوش؛ اختاري الحرية؛ النبل؛ الصمت عندما يعلو صوت الغوغاء؛ وإذا حزنتي يوماً اجعلي ساعة الحزن دقيقة؛ لا تجعلي أحد ينال من قلبك؛ ووقتك؛ وانسانيتك ..


اختاري الجمال عندما يسود القبح؛ الرحمة عندما يختار الجميع أن يتجبر بإسم العدل؛ اختاري السلام - فوالله لن تندمي أبداً.


انتظريني دائماً؛ فلدي الكثير لأقوله لك .. 


- هنا القاهرة -

١٦ ديسمپر ٢٠٢٢




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حديث ذات ٣٨

بعد منتصف الليل، أنت وحدك تماماً تشاركك السهرة دميتك، وكتابك الذي تحاول أن تقرأ فيه، فتتلاشى السطور وتذوب حبكة الرواية منك، تحاول أن تفر من تلك الأفكار التي لا تأتيك إلا في تلك الساعة! الجميع في سبات عميق، وأنت تحاول أن تقنع نفسك أنك بخير، فتضم دميتك الصغيرة إلى صدرك وتدعي النوم .. بالأمس، الأمس البعيد، عندما كنت صغيراً كان هذا يهون عليك كثيراً عندما كنت تظن أن دميتك تسمع وترى وتشعر وتشاركك قراراتك الهامة، فتشعر أنك لست وحيداً حتى لو لم يكن لك من الأصدقاء والأخوة الكثر. أما الآن، أنت كبير، كبير أن تعترف بأحزانك للأصدقاء، وأن تذهب لفراشك مبكراً - وأن تضم دميتك إلى صدرك، كبير لدرجة مثيرة للشفقة، حتى بعد أن رحل الجميع عنك، رفضت الدمية الجماد أن يبلى قماشها، وأن تلفظ حشوها، فتتلاشى عنك مثل الجميع، واختارت أن تبقى بجوارك، تنتظرك أن تخلع عنك رداء الكبار، وتضمها إلى صدرك ببراءتك القديمة ربما تنام سعيداً .. ٢٢ أكتوبر ٢٠٢١ | بورسعيد 

بنفسج ٢

في واحدة من المواقف التي لن أنساها أبدا .. كنت في إحدى الشركات أسدد فاتورة تليفوني وكانت بجواري سيدة منتقبة؛ تنظر لي بدقة وتطيل إلي النظر، شعرت بالحرج، وشعرت أن بي شيئا ليس مريحا أو صحيحا.  نظرت لنفسي جيدا، أنا محتشمة، وملابسي فضفاضة، أسأل نفسي بغيظ لماذا تنظر لي هذه النظرات! ثم تجرأت: في حاجة؟  أبدا يا حبيبتي: انتي مصرية؟ ابتسمت لها وهززت رأسي بالإيجاب  ثم جلست لأنتظر دوري فجلست جواري  نظرت لها دون أن تشعر وجدت حجابها باليا عبائتها ممزقة، حذائها ممزق، ثم تمزق قلبي لما رأيت. أنا عندي 55 سنة وعندي ولد واحد بس مطلع عيني انا أرملة ونفسي اتجوز تاني بس هو مش راضي، جالي ناس كتير مناسبين وكنت برفض علشانه، لبست النقاب دا غصب عني أنا جميلة جدا ع فكرة، بس أبوه كان بيغير عليا وهو كمان اتعلم منه الطبع دا، والله يا بنتي أنا في عذاب ومعرفش أنا بحكي لك ليه! سردت حكاية كاملة من العذاب والتملك والسيطرة ونكران الذات .. تبدو فعلا جميلة، وبسيطة، وطيبة القلب .. لكن ما لفت نظري وشغف قلبي طفولتها المكبلة التي شعرت بها دون أن تتحدث.  سددت فاتورتها ثم انتظرت قليلا بالخارج كنت لا أعلم أنها تنتظرني.. سددت بدوري

حديث ذات ٣٧

تسألني سيدة: لماذا تفضلين المكوث ببيتك طوال أيام الأسبوع؛ بينما الخروج لمكان جديد أو السفر؛ أو الترجل في حديقة واسعة؛ أو حتى الجلوس في مقهى بسيط؛ أفضل؛ ووسيلة من وسائل التجديد والتغيير؛ وضخ دماء جديدة لحياتك الراكدة!  أجبت: في بيتي أنا حرة؛ كل الأماكن البعيدة والقريبة رغم جمالها واختلافها هي للجميع؛ الجميع يشارك الجميع لحظاته الخاصة؛ يمكن لأحدهم أن يرمقني بفضول وأنا في لحظة بكاء؛ أو تتودد احداهن لي لمجرد الفضفضة؛ بينما ذاتي في لحظة فضفضة غير مسموعة .. سقف بيتي يغطيني؛ أما في الخارج أنا عارية؛ ولو غطى جسدي كله سواد الغرابيب .. ذات مساء؛ كنت جالسة وحدي في احدى المقاهي الراقية البعيدة؛ خلف شاشة اللاب توب؛ غارقة في كتابة نص عنيد؛ وعيوني ترفض البكاء؛ مرت ساعة وأنا في حالة توسل للحروف أن تتصالح وتتضاجع على سطور الصفحة؛ حتى ضجرت .. نظرت للجرسون أن يقترب؛ لآسد فاتورة ساعة من العمر كانت ثقيلة وجافة؛ شربت على نخبها قهوة مره .. اقترب خطوتين؛ وبصوت خفيض  الأستاذ دفع يا فندم ثم أشار برأسه ليساره  أنظر لأجده شخصا غريبا عني لا أعرفه؛ بخطوات وقورة؛ اقترب مني ومد يده وعرف نفسه .. نظرت ليده الممدودة نحو