التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا"

 صباحي اليوم من بورسعيد 


اليوم نويت زيارة بابا؛ فذهبت كعادتي لبائعة الورد أطلب باقة من أربعة ورود بلدي؛ كانت الفتاة تختار الورد بعناية عجيبة؛ ثم ضمتهم وعقدتهم بشريطاً أسودِ اللون! 


دون أن أخبرها أن الورد لحبيب نائم منذ ستة عشر عاماً ..


الشمس اليوم هادئة الحرارة؛ والهواء لطيفاً والشوارع هادئة؛ طقساً رحيماً يليقُ بقلبٌ مُلتاعٌ؛ أتعبه الغياب!


يمر سائق التاكسي على مقابر الشهداء؛ فأطل برأسي من شباك التاكسي مدققة النظر على المقابر ثم همهمت بالفاتحة سراً وما أن اِنتهيتُ من التلاوة والدعاء؛ حتى وچدت نفسي أمام بوابة المقابر التي ينام بها بابا.


ترجلتُ بهدوء حاملة باقة الورد في ضمة يدي؛ أحدث ذاتي!


هنا يسكن الجميع؛ وهنا سأسكن أنا ..


وذهبت أسأل على العم مجدي صديقي الذي يعتني بقبر أبي في غيابي ..


وچدته بعيداً ينظف أحد المقابر ويروي زرعه؛ رآني فهرول نحوي متبسماً وقال أم الخضر حمد الله على سلامتك.


وانطلق ليعد عدة النظافة؛ وأنا بجوار بابا أنتظره؛ أراقب آثار غيابي على المكان؛ لقد مات الكثير من الزرع ويبدو أن هناك زرعاً جديداً؛ المكان فعلاً به الكثير من التغييرات! 


أنا أعتني بقبر بابا وكأنه بيته؛ حجرته؛ أو مكتبه!


لابد وأن أزيل هذا الزرع الميت؛ وأُلقي به بعيداً؛ حتى يأتي العم مجدي ويغسل المكان بالماء المُطعم بماء الورد؛ ثم أَرشُ الغلة في كل مكان؛ وأضع الماء في مكانه لتأتي الطيور تأكل وتشرب وتسبح بحمد الله؛ وليأنس بابا في مرقده بعد غياب عام! 


يخبرني عم مجدي أن هُناك مُتوفياً چديداً سكن قبر أبي منذ شهوراً؛ وأن هُناك من يآتي ليوزع أدعية للمتوفى؛ ولم يعرف من هو!


يروي عم مجدي تفاصيلاً تبدو عادية؛ وأنا صامتة أراقب همته التي ضعفت وبطء حديثه؛ ووزنه الذي قل الكثير؛ وأعود بنظري لشواهد القبر؛ التي زادت شاهداً؛ وللزرع الذي مات والآخر الذي نبت من جديد!


عاماً واحداً؛ أحدثت دورة الحياة فيه تغييراتٍ قوية في الأماكن والنفوس؛ عاماً واحداً زاد به شوقي وعذابي؛ وانعدم فيه تعلقي بالدنيا ..


ألقيتُ السلام على بابا؛ وتركتُ ورودي نائمة بجوار اسمه الغالي؛ ورحلتُ ..


٥ أكتوبر ٢٠٢٣ - بورسعيد



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حديث ذات ٣٨

بعد منتصف الليل، أنت وحدك تماماً تشاركك السهرة دميتك، وكتابك الذي تحاول أن تقرأ فيه، فتتلاشى السطور وتذوب حبكة الرواية منك، تحاول أن تفر من تلك الأفكار التي لا تأتيك إلا في تلك الساعة! الجميع في سبات عميق، وأنت تحاول أن تقنع نفسك أنك بخير، فتضم دميتك الصغيرة إلى صدرك وتدعي النوم .. بالأمس، الأمس البعيد، عندما كنت صغيراً كان هذا يهون عليك كثيراً عندما كنت تظن أن دميتك تسمع وترى وتشعر وتشاركك قراراتك الهامة، فتشعر أنك لست وحيداً حتى لو لم يكن لك من الأصدقاء والأخوة الكثر. أما الآن، أنت كبير، كبير أن تعترف بأحزانك للأصدقاء، وأن تذهب لفراشك مبكراً - وأن تضم دميتك إلى صدرك، كبير لدرجة مثيرة للشفقة، حتى بعد أن رحل الجميع عنك، رفضت الدمية الجماد أن يبلى قماشها، وأن تلفظ حشوها، فتتلاشى عنك مثل الجميع، واختارت أن تبقى بجوارك، تنتظرك أن تخلع عنك رداء الكبار، وتضمها إلى صدرك ببراءتك القديمة ربما تنام سعيداً .. ٢٢ أكتوبر ٢٠٢١ | بورسعيد 

بنفسج ٢

في واحدة من المواقف التي لن أنساها أبدا .. كنت في إحدى الشركات أسدد فاتورة تليفوني وكانت بجواري سيدة منتقبة؛ تنظر لي بدقة وتطيل إلي النظر، شعرت بالحرج، وشعرت أن بي شيئا ليس مريحا أو صحيحا.  نظرت لنفسي جيدا، أنا محتشمة، وملابسي فضفاضة، أسأل نفسي بغيظ لماذا تنظر لي هذه النظرات! ثم تجرأت: في حاجة؟  أبدا يا حبيبتي: انتي مصرية؟ ابتسمت لها وهززت رأسي بالإيجاب  ثم جلست لأنتظر دوري فجلست جواري  نظرت لها دون أن تشعر وجدت حجابها باليا عبائتها ممزقة، حذائها ممزق، ثم تمزق قلبي لما رأيت. أنا عندي 55 سنة وعندي ولد واحد بس مطلع عيني انا أرملة ونفسي اتجوز تاني بس هو مش راضي، جالي ناس كتير مناسبين وكنت برفض علشانه، لبست النقاب دا غصب عني أنا جميلة جدا ع فكرة، بس أبوه كان بيغير عليا وهو كمان اتعلم منه الطبع دا، والله يا بنتي أنا في عذاب ومعرفش أنا بحكي لك ليه! سردت حكاية كاملة من العذاب والتملك والسيطرة ونكران الذات .. تبدو فعلا جميلة، وبسيطة، وطيبة القلب .. لكن ما لفت نظري وشغف قلبي طفولتها المكبلة التي شعرت بها دون أن تتحدث.  سددت فاتورتها ثم انتظرت قليلا بالخارج كنت لا أعلم أنها تنتظرني.. سددت بدوري

حديث ذات ٣٧

تسألني سيدة: لماذا تفضلين المكوث ببيتك طوال أيام الأسبوع؛ بينما الخروج لمكان جديد أو السفر؛ أو الترجل في حديقة واسعة؛ أو حتى الجلوس في مقهى بسيط؛ أفضل؛ ووسيلة من وسائل التجديد والتغيير؛ وضخ دماء جديدة لحياتك الراكدة!  أجبت: في بيتي أنا حرة؛ كل الأماكن البعيدة والقريبة رغم جمالها واختلافها هي للجميع؛ الجميع يشارك الجميع لحظاته الخاصة؛ يمكن لأحدهم أن يرمقني بفضول وأنا في لحظة بكاء؛ أو تتودد احداهن لي لمجرد الفضفضة؛ بينما ذاتي في لحظة فضفضة غير مسموعة .. سقف بيتي يغطيني؛ أما في الخارج أنا عارية؛ ولو غطى جسدي كله سواد الغرابيب .. ذات مساء؛ كنت جالسة وحدي في احدى المقاهي الراقية البعيدة؛ خلف شاشة اللاب توب؛ غارقة في كتابة نص عنيد؛ وعيوني ترفض البكاء؛ مرت ساعة وأنا في حالة توسل للحروف أن تتصالح وتتضاجع على سطور الصفحة؛ حتى ضجرت .. نظرت للجرسون أن يقترب؛ لآسد فاتورة ساعة من العمر كانت ثقيلة وجافة؛ شربت على نخبها قهوة مره .. اقترب خطوتين؛ وبصوت خفيض  الأستاذ دفع يا فندم ثم أشار برأسه ليساره  أنظر لأجده شخصا غريبا عني لا أعرفه؛ بخطوات وقورة؛ اقترب مني ومد يده وعرف نفسه .. نظرت ليده الممدودة نحو