كُنت في الصباح، وكُنت أُعد لنفسي "مج" من القهوة السوداء، بحثتُ عن مجي الخاص فلم أجده، فأنا دائماً أحتفظُ به بعيداً عن متناول يد الجميع، لشدة حرصي عليه.
سألتُ أُمي، أخبرتني أنه سقط على الأرض وتبعثرت أجزاءه، ولم يتبقى منه إلا غطاؤه الخشبي، صمتُ وهززتُ رأسي ثم بحثتُ عن آخر، بعد ما رأيت نظرة الحزن تعلو ملامحها ..
ولكن حينها، علمتُ أننا لا نملك الأشياء إلى الأبد، وليس هُناك شيئاً يعيش للأبد، مهما حرصنا على بقاؤه!
لا أحد يعلم قدر هذا "المج" بالنسبة لي، لم يكن هدية من أحدهم، أو تذكار من حبيب أو صديق رحل، هو هدية من نفسي لنفسي، هو طبطبة على كتفي من كفي في وقت كُنت أحتاج فيه للدعم، ولكن فيمَّا يبدو أن دوره في حياتي قد انتهى!
مُنذ سنوات ضاعت نظارة أبي الطبية ولم يبقى لها أثر، كنت أُحبها جداً، كانت هي النوافذ الصغيرة التي تطل منها عُيون حبيبي، اختفت دُون اشعار، ودُون أن تترك شيئاً منها لأتلمّس فيه الصبر..
نعم أعشق أشياء أبي وأراها جُزءً منه، من شخصه، ومن قناعاته، من ذُوقه، ومن تفكيره، ولكن لكل شيء عُمر مُحدد، ينتهي بإنتهاء دُوره،
ظللت أجلس ليالٍ طويلة في حضرة كُتبه، وأقلامه، وخاتم زواجه، نظارته، وهاتفه، وبعض أشياؤه الأُخرى، حتى انشغلت عنها وتبدلت أولوياتي، فشعرتُ أن الأشياء أيضاً تحزن عندما لم تجد من يهتم بها، أو بمعنى أدق على رحيل صاحبها الأولي، وتتلاشى تدريجياً من الحياة ..
أملك خاتماً أسود اللون بفص لوزي، كانت هدية ثمينة على قلبي، عُمرها عشرون عاماً أو يزيد، أحتفظ به في عُلبتي المُّوسيقية، أصابه الصدأ مثل ذكرياتي، وتلاشت منه ملامحه المُحببة إلى قلبي، ولكن بقيت عليه تلك الخدوش الرفيعة التي تذكرني بمواقف ضحك فيها قلبي يوماً ما حد البكاء!
أنظر إلى تلك القطعة الصغيرة التي تحمل معها أچمل ذكرياتي، والتي لم يتبقى منها إلا أطياف شرفت ذاكرتي على تلاشيها!
يُصيبني الإنزعاج عندما أشعر أن أُمي حزينة على فقد شيئاً مهما بدى غالياً أو ثميناً، فمن حق الأشياء أن تعلن رحيلها، أن تستريح من قيودنا لها، أن تتحرر من تملُّكنا لها، أن تفر من الأنا التي تسكننا!
لم تأتي مرحلة السلام في حياتي من فراغ، هناك أشواط من الفقد ومن الخذلان من الألم وادعاء النسيان، من الحُزن، ومن السعادة الكاذبة، من الحُرية الواهية، من الأحلام المبتورة، من الأسئلة التي لا إجابة لها، من الصُحبة الزائفة، من الحيرة القاسية، ومن القسوة التي لا حدود لها، من البخل وأنا في قمة الإنتظار، ومن الإبتسام حتى لو كان القلب ينشق إلى نصفين!
تعودت أن أُقبِر الحُب والأحلام والأسرار معاً في مقبرةٍ واحدة ليلاً، ثم أمضي في الصباح أبحث من جديد، حتى لو كان الليل ينتظرني بماذا أتيت له اليوم!
أحلاماً جديدة؟
أسراراً صغيرة؟
حُباً لن تراه الشمس؟
وكأني أم ثكلى تُقبر أولادها الصغار بحنو وطبطبه، وتُهدي لنفسها سراً كلمات الصبر.
"نستطيع أن نحلم من جديد، أن نغزل الأسرار، وأن نطير في سماء الحُب وكأننا يوماً ما، لم ينكسر لنا جناحاً" ..
بورسعيد | سبتمبر ٢٠١٩
تعليقات