التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حديث ذات ٣٠

كُنت في الصباح، وكُنت أُعد لنفسي "مج" من القهوة السوداء، بحثتُ عن مجي الخاص فلم أجده، فأنا دائماً أحتفظُ به بعيداً عن متناول يد الجميع، لشدة حرصي عليه.


سألتُ أُمي، أخبرتني أنه سقط على الأرض وتبعثرت أجزاءه، ولم يتبقى منه إلا غطاؤه الخشبي، صمتُ وهززتُ رأسي ثم بحثتُ عن آخر، بعد ما رأيت نظرة الحزن تعلو ملامحها ..


ولكن حينها، علمتُ أننا لا نملك الأشياء إلى الأبد، وليس هُناك شيئاً يعيش للأبد، مهما حرصنا على بقاؤه!


لا أحد يعلم قدر هذا "المج" بالنسبة لي، لم يكن هدية من أحدهم، أو تذكار من حبيب أو صديق رحل، هو هدية من نفسي لنفسي، هو طبطبة على كتفي من كفي في وقت كُنت أحتاج فيه للدعم، ولكن فيمَّا يبدو أن دوره في حياتي قد انتهى!


مُنذ سنوات ضاعت نظارة أبي الطبية ولم يبقى لها أثر، كنت أُحبها جداً، كانت هي النوافذ الصغيرة التي تطل منها عُيون حبيبي، اختفت دُون اشعار، ودُون أن تترك شيئاً منها لأتلمّس فيه الصبر..


نعم أعشق أشياء أبي وأراها جُزءً منه، من شخصه، ومن قناعاته، من ذُوقه، ومن تفكيره، ولكن لكل شيء عُمر مُحدد، ينتهي بإنتهاء دُوره،

ظللت أجلس ليالٍ طويلة في حضرة كُتبه، وأقلامه، وخاتم زواجه، نظارته، وهاتفه، وبعض أشياؤه الأُخرى، حتى انشغلت عنها وتبدلت أولوياتي، فشعرتُ أن الأشياء أيضاً تحزن عندما لم تجد من يهتم بها، أو بمعنى أدق على رحيل صاحبها الأولي، وتتلاشى تدريجياً من الحياة ..


أملك خاتماً أسود اللون بفص لوزي، كانت هدية ثمينة على قلبي، عُمرها عشرون عاماً أو يزيد، أحتفظ به في عُلبتي المُّوسيقية، أصابه الصدأ مثل ذكرياتي، وتلاشت منه ملامحه المُحببة إلى قلبي، ولكن بقيت عليه تلك الخدوش الرفيعة التي تذكرني بمواقف ضحك فيها قلبي يوماً ما حد البكاء!

أنظر إلى تلك القطعة الصغيرة التي تحمل معها أچمل ذكرياتي، والتي لم يتبقى منها إلا أطياف شرفت ذاكرتي على تلاشيها!


يُصيبني الإنزعاج عندما أشعر أن أُمي حزينة على فقد شيئاً مهما بدى غالياً أو ثميناً، فمن حق الأشياء أن تعلن رحيلها، أن تستريح من قيودنا لها، أن تتحرر من تملُّكنا لها، أن تفر من الأنا التي تسكننا!


لم تأتي مرحلة السلام في حياتي من فراغ، هناك أشواط من الفقد ومن الخذلان من الألم وادعاء النسيان، من الحُزن، ومن السعادة الكاذبة، من الحُرية الواهية، من الأحلام المبتورة، من الأسئلة التي لا إجابة لها، من الصُحبة الزائفة، من الحيرة القاسية، ومن القسوة التي لا حدود لها، من البخل وأنا في قمة الإنتظار، ومن الإبتسام حتى لو كان القلب ينشق إلى نصفين!


تعودت أن أُقبِر الحُب والأحلام والأسرار معاً في مقبرةٍ واحدة ليلاً، ثم أمضي في الصباح أبحث من جديد، حتى لو كان الليل ينتظرني بماذا أتيت له اليوم!

أحلاماً جديدة؟ 

أسراراً صغيرة؟

حُباً لن تراه الشمس؟ 


وكأني أم ثكلى تُقبر أولادها الصغار بحنو وطبطبه، وتُهدي لنفسها سراً كلمات الصبر.


"نستطيع أن نحلم من جديد، أن نغزل الأسرار، وأن نطير في سماء الحُب وكأننا يوماً ما، لم ينكسر لنا جناحاً" ..


بورسعيد |  سبتمبر ٢٠١٩ 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حديث ذات ٣٨

بعد منتصف الليل، أنت وحدك تماماً تشاركك السهرة دميتك، وكتابك الذي تحاول أن تقرأ فيه، فتتلاشى السطور وتذوب حبكة الرواية منك، تحاول أن تفر من تلك الأفكار التي لا تأتيك إلا في تلك الساعة! الجميع في سبات عميق، وأنت تحاول أن تقنع نفسك أنك بخير، فتضم دميتك الصغيرة إلى صدرك وتدعي النوم .. بالأمس، الأمس البعيد، عندما كنت صغيراً كان هذا يهون عليك كثيراً عندما كنت تظن أن دميتك تسمع وترى وتشعر وتشاركك قراراتك الهامة، فتشعر أنك لست وحيداً حتى لو لم يكن لك من الأصدقاء والأخوة الكثر. أما الآن، أنت كبير، كبير أن تعترف بأحزانك للأصدقاء، وأن تذهب لفراشك مبكراً - وأن تضم دميتك إلى صدرك، كبير لدرجة مثيرة للشفقة، حتى بعد أن رحل الجميع عنك، رفضت الدمية الجماد أن يبلى قماشها، وأن تلفظ حشوها، فتتلاشى عنك مثل الجميع، واختارت أن تبقى بجوارك، تنتظرك أن تخلع عنك رداء الكبار، وتضمها إلى صدرك ببراءتك القديمة ربما تنام سعيداً .. ٢٢ أكتوبر ٢٠٢١ | بورسعيد 

بنفسج ٢

في واحدة من المواقف التي لن أنساها أبدا .. كنت في إحدى الشركات أسدد فاتورة تليفوني وكانت بجواري سيدة منتقبة؛ تنظر لي بدقة وتطيل إلي النظر، شعرت بالحرج، وشعرت أن بي شيئا ليس مريحا أو صحيحا.  نظرت لنفسي جيدا، أنا محتشمة، وملابسي فضفاضة، أسأل نفسي بغيظ لماذا تنظر لي هذه النظرات! ثم تجرأت: في حاجة؟  أبدا يا حبيبتي: انتي مصرية؟ ابتسمت لها وهززت رأسي بالإيجاب  ثم جلست لأنتظر دوري فجلست جواري  نظرت لها دون أن تشعر وجدت حجابها باليا عبائتها ممزقة، حذائها ممزق، ثم تمزق قلبي لما رأيت. أنا عندي 55 سنة وعندي ولد واحد بس مطلع عيني انا أرملة ونفسي اتجوز تاني بس هو مش راضي، جالي ناس كتير مناسبين وكنت برفض علشانه، لبست النقاب دا غصب عني أنا جميلة جدا ع فكرة، بس أبوه كان بيغير عليا وهو كمان اتعلم منه الطبع دا، والله يا بنتي أنا في عذاب ومعرفش أنا بحكي لك ليه! سردت حكاية كاملة من العذاب والتملك والسيطرة ونكران الذات .. تبدو فعلا جميلة، وبسيطة، وطيبة القلب .. لكن ما لفت نظري وشغف قلبي طفولتها المكبلة التي شعرت بها دون أن تتحدث.  سددت فاتورتها ثم انتظرت قليلا بالخارج كنت لا أعلم أنها تنتظرني.. سددت بدوري

حديث ذات ٣٧

تسألني سيدة: لماذا تفضلين المكوث ببيتك طوال أيام الأسبوع؛ بينما الخروج لمكان جديد أو السفر؛ أو الترجل في حديقة واسعة؛ أو حتى الجلوس في مقهى بسيط؛ أفضل؛ ووسيلة من وسائل التجديد والتغيير؛ وضخ دماء جديدة لحياتك الراكدة!  أجبت: في بيتي أنا حرة؛ كل الأماكن البعيدة والقريبة رغم جمالها واختلافها هي للجميع؛ الجميع يشارك الجميع لحظاته الخاصة؛ يمكن لأحدهم أن يرمقني بفضول وأنا في لحظة بكاء؛ أو تتودد احداهن لي لمجرد الفضفضة؛ بينما ذاتي في لحظة فضفضة غير مسموعة .. سقف بيتي يغطيني؛ أما في الخارج أنا عارية؛ ولو غطى جسدي كله سواد الغرابيب .. ذات مساء؛ كنت جالسة وحدي في احدى المقاهي الراقية البعيدة؛ خلف شاشة اللاب توب؛ غارقة في كتابة نص عنيد؛ وعيوني ترفض البكاء؛ مرت ساعة وأنا في حالة توسل للحروف أن تتصالح وتتضاجع على سطور الصفحة؛ حتى ضجرت .. نظرت للجرسون أن يقترب؛ لآسد فاتورة ساعة من العمر كانت ثقيلة وجافة؛ شربت على نخبها قهوة مره .. اقترب خطوتين؛ وبصوت خفيض  الأستاذ دفع يا فندم ثم أشار برأسه ليساره  أنظر لأجده شخصا غريبا عني لا أعرفه؛ بخطوات وقورة؛ اقترب مني ومد يده وعرف نفسه .. نظرت ليده الممدودة نحو