التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حديث ذات ٢٤

في بيت چدي لأُمي كان الدرج غير مُتصل، كان عمودياً ومُفرغ، فيأخذني خيالي بأن أُسقط قدمي من بين الفراغات وأتخيل نفسي عازفة بيانو، فتتنقل أصابعي الصغيرة بين هُنا وهُناك ثم أرفع يدي عالياً، وكأني انتهيت من معزوفتي، فأفيق على صوت جدتي وهي خائفة عليّ من السقوط، جدتي كانت لا تعلم أن من نبتَّ فوق كتفيه جناحين، لنْ يسقُط أبداً، يظلُ في سمَّاء خياله سابحاً، تكبر معه أحلامه وتتوّرد، لا شيء يقتُل الأحلام إلا التوقف عنها، ولا شيء يُجهض الخيال إلا الواقع.


-في نفس البناية التي تسكُن بها چدتي، منزل مهچور لن يسكنه أحد، ولكن سكن به خيالي، وحُلم تمنيتُ يوماً أن يتحقق، عقدتُ النية بأن أصعد له دون أن يشعُر بي أحد وخصوصًا الكِبار، الكِبار سيتهمُّوني بالجنون، وبالفعل صعدتُ وكسَّرت الباب، وجدت المنزل بلا شواغل أيضًا، ولكن رأيت الصورة التي رسمتُها في خيالي ترتسم أمامي مرةٍ ثانية بصورة واضحة، سأحولها لمكتبة، نعم مكتبة، وسأضع كل ما أملُك من كُتب في كُل رُكن، وسأصنع رفوفاً وسأُزينها، ثم أضعُ عليها كل اللوحات الورقية التي رسمتها في حِصص الرسم، كان مُعلم الرسم علمني كيف أرسم كل ما يقفز في خيالي، ولا أتركه إلا وهو صورة حقيقية على الورق، كان اسمه جمال، مِنه تعلمتُ الرسم وأحببتُ الطيور.


-بين منزل چدتي وبين البحر مسافة قصيرة، كُنت أشعر وكأنه سفر، لا أذكر مرة ذهبتُ فيها إلى البحر إلا وأنا أشعر بالإشتياق يدفعني دفع، أُحب اللون الأزرق، وأُحب النوارس، وأُحب البيوت والقصور التي بنيتها على شاطيء البحر وزينتها بالصدف، كُنت أجلس بالساعات على الرمال، أبني بيوتاً من خيالي، ثُم أسكُنها، ثُم أضع على أبوابه حُراساً، لأمنع الأشرار من الإنس والجان أن يدخلون، فيهدموا قصري ..


ثُم ومع أول موچة، يذوب قصري وكأنه لم يكن، وتهرب چنودي الحارسة خوفاً من الغرق، وأنا أنظر لما بنيته خلال ساعاتٍ طويلة وهو يتحول لرمال، مُجرد رمال ..


-من نافذة منزل چدتي لأُمي، كُنت أنظر لأسطح البنايات المُّجاورة، فأجدها مُزينة بأبراج اليمام، يخرج من عِشه في الشروق، يظل يطير ويسبح في السماء حتى يتعب ويعود في الغروب وربمَّا قبل، يخرج صاحبه رافعاً له زراعيه، ويُرسل له الإشارات والأصوات وكأنه يُناديه، والعجيب أنه يعيّ معنى اشاراته، فيعود مُسرعاً ويحُط من جديد على السطح ويدخُل داره بسَّلام، وأظل أنا أراقب من النافذة وحدي، وأغني لجدتي ..


يمامة بيضا، ومنين أجيبها 

طارت يانينة عند صاحبها

وخدها البلبل وطار وياها 

قصده يانينة يعرف لُغاها 

شعرها يهفهف وعليّ ترفرف

وأنا بدي أعرف مطرح ماهيا

شعرها أصفر حلو ومضفر

ماشية تتمخطر قلبي عشقها 

طارت في قصري امبارح العصري ..


ظلَّت تلك الأغنية مُعلقة في ذهني، مُوشومة في ذاكرتي، كُلمَّا سمعتها، ارتسم في ذهني صورة أسراب من الطيور سابحة في ملكوت الله، وأنا أقفُ على أطراف أصابعي لألحق بهم، أريد أن أطير لأرى العالم من فوق السحاب، لأرى الناس والبيوت بحجمها الطبيعي.

لكن چدتي تعود مرةٍ أخرى، وتناديني بحنو زائد وتمسك بي وتمسح على رأسي، وتمرر أصابعها الطيبة بين خُصلات شعري حتى أنام، فأغفو وأطير في سماء حُلمي حتى الصباح. 


بورسعيد | ١١ يوليو ٢٠١٩ 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حديث ذات ٤٦

الوقت، له أفاعيل عجيبة يرفع ويخفض مقامات الناس في قلبك، ثم يرفع قيمتك على الجميع عندما تدرك قيمة نفسك وتثقلها بما يليق بها. يمكنه أن يساعدك على النسيان، وعلى التشافي، وعلى بناء نفسك من جديد، يمكنه أن يساعدك أن تخرج من الدوائر السامة لكن بهدوء، الوقت كالرجل الأنيق كلاسيكي الطبع يتعامل مع الأمور بترو وحكمة وصبر بالغ، ينظر لك بطرف عيونه وبين شفتيه سيجار، تأكله شظاياه ببطء فتظن أنه ليس مهتما، لكنه الوقت يا صديقي ليس عليه أن يهتم لأمرك، هو يقرص أذنك مرة واحدة ثم بعدها تدرك قيمته. لذا لا تتقبل من أحد معايدة في الصباح الثاني ليوم عيد ميلادك، ولا تتقبل العزاء بعد ثلاث، وليس فرضا عليك بعد مرورك برحلة العناء والتعب ثم التشافي أن تفتح ذراعيك لمن لم يمسح على رأسك وأنت مريضاً! لكن من يهديك جزء من وقته، هو يهديك جزء من عمره، بادله الوقت والعمر والمشاعر، هكذا هي الحياة كؤوس متبادلة ..          بورسعيد | ٢٢ أغسطس ٢٠٢٤ م

حديث ذات ٤٨

بالأمس قررت الكتابة عن شيءٍ ما، فـ جلستُ على كرسي خشبيّ مائل الظهر، ورفعتُ ساقاي لأعلى، ووضعت ساقٍ على أُخرى ثم أسندتهما على الحائط، واَنكببتُ على الورق، لكن بئسَ الكتابة التي تأتي عن قرار! الكتابة الصادقة كـ الولادة تأتي على غير موعد، هكذا تحدث، بعد سيلان من الماء وأشواطٍ من الألم ليعلن عن حدوث حياة تنبثقُ من رحم الآن.  بعد ساعة من التهيئةِ للكتابة لم أكتب! لكنني بكيت. حسنًا، سأعتبر دموعي حروفًا خَجِلة، تخرج على اِستحياء تود أن تطير وأن لا يبقى لها أثر، حروف لا ترغب في الخلود على الورق، ترفض أن يقرأها أحد، أن يحنو عليها أحد، أن يلومها أحد، وأن يجعل منها حدوتة!  حروف مبتورة ترفض أن تضاجعها حروف أخرى لتصبح كلمة، هي ترغب في أن تتبخر وكأنها لم تحدث!  ظلت تهبط دموعي على الورق، حتى هدَأ قلبي لكن ثمة دمعةٍ واحدة ظلت متحجرة في اِحدى زوايا عيني، ترفض الخروج! كأنها طفلة تخاف الخروج للعالم، أدقق النظر في المرأة لأمسح تلك الماسة المتحجرة، ولكنها تبقى مكانها ثابتة!  كان عليّ أن أفهم أن تلكَ الدمعة تحديدًا ليست حرفًا، بل كلمة كاملة، إن خرجت صرخت بالحكاية، وليست كل الحكايات تصلح ل...

حديث ذات ٤٧

في الماضي كنت فتاة تحب التفاصيل، تبحث عنها وتدقق النظر فيها ثم أسكب فيها كل ما أشعر، وأذيب مشاعري فيها بملعقة نارية لأتحول مع الوقت إلى كائن رخامي بلا إحساس، ومن ثم تتحول التفاصيل إلى لعنة على شكل فأس يشق رأسي نصفين ويتحول قلبي إلى فتات.  نضجت الفتاة، وأصبحت امرأة تعبث بالتفاصيل وكأنها خيوط تريكو ثم تتركها جانبًا .. ١٥ أكتوبر ٢٠٢٤ م|بورسعيد