في بيت چدي لأُمي كان الدرج غير مُتصل، كان عمودياً ومُفرغ، فيأخذني خيالي بأن أُسقط قدمي من بين الفراغات وأتخيل نفسي عازفة بيانو، فتتنقل أصابعي الصغيرة بين هُنا وهُناك ثم أرفع يدي عالياً، وكأني انتهيت من معزوفتي، فأفيق على صوت جدتي وهي خائفة عليّ من السقوط، جدتي كانت لا تعلم أن من نبتَّ فوق كتفيه جناحين، لنْ يسقُط أبداً، يظلُ في سمَّاء خياله سابحاً، تكبر معه أحلامه وتتوّرد، لا شيء يقتُل الأحلام إلا التوقف عنها، ولا شيء يُجهض الخيال إلا الواقع.
-في نفس البناية التي تسكُن بها چدتي، منزل مهچور لن يسكنه أحد، ولكن سكن به خيالي، وحُلم تمنيتُ يوماً أن يتحقق، عقدتُ النية بأن أصعد له دون أن يشعُر بي أحد وخصوصًا الكِبار، الكِبار سيتهمُّوني بالجنون، وبالفعل صعدتُ وكسَّرت الباب، وجدت المنزل بلا شواغل أيضًا، ولكن رأيت الصورة التي رسمتُها في خيالي ترتسم أمامي مرةٍ ثانية بصورة واضحة، سأحولها لمكتبة، نعم مكتبة، وسأضع كل ما أملُك من كُتب في كُل رُكن، وسأصنع رفوفاً وسأُزينها، ثم أضعُ عليها كل اللوحات الورقية التي رسمتها في حِصص الرسم، كان مُعلم الرسم علمني كيف أرسم كل ما يقفز في خيالي، ولا أتركه إلا وهو صورة حقيقية على الورق، كان اسمه جمال، مِنه تعلمتُ الرسم وأحببتُ الطيور.
-بين منزل چدتي وبين البحر مسافة قصيرة، كُنت أشعر وكأنه سفر، لا أذكر مرة ذهبتُ فيها إلى البحر إلا وأنا أشعر بالإشتياق يدفعني دفع، أُحب اللون الأزرق، وأُحب النوارس، وأُحب البيوت والقصور التي بنيتها على شاطيء البحر وزينتها بالصدف، كُنت أجلس بالساعات على الرمال، أبني بيوتاً من خيالي، ثُم أسكُنها، ثُم أضع على أبوابه حُراساً، لأمنع الأشرار من الإنس والجان أن يدخلون، فيهدموا قصري ..
ثُم ومع أول موچة، يذوب قصري وكأنه لم يكن، وتهرب چنودي الحارسة خوفاً من الغرق، وأنا أنظر لما بنيته خلال ساعاتٍ طويلة وهو يتحول لرمال، مُجرد رمال ..
-من نافذة منزل چدتي لأُمي، كُنت أنظر لأسطح البنايات المُّجاورة، فأجدها مُزينة بأبراج اليمام، يخرج من عِشه في الشروق، يظل يطير ويسبح في السماء حتى يتعب ويعود في الغروب وربمَّا قبل، يخرج صاحبه رافعاً له زراعيه، ويُرسل له الإشارات والأصوات وكأنه يُناديه، والعجيب أنه يعيّ معنى اشاراته، فيعود مُسرعاً ويحُط من جديد على السطح ويدخُل داره بسَّلام، وأظل أنا أراقب من النافذة وحدي، وأغني لجدتي ..
يمامة بيضا، ومنين أجيبها
طارت يانينة عند صاحبها
وخدها البلبل وطار وياها
قصده يانينة يعرف لُغاها
شعرها يهفهف وعليّ ترفرف
وأنا بدي أعرف مطرح ماهيا
شعرها أصفر حلو ومضفر
ماشية تتمخطر قلبي عشقها
طارت في قصري امبارح العصري ..
ظلَّت تلك الأغنية مُعلقة في ذهني، مُوشومة في ذاكرتي، كُلمَّا سمعتها، ارتسم في ذهني صورة أسراب من الطيور سابحة في ملكوت الله، وأنا أقفُ على أطراف أصابعي لألحق بهم، أريد أن أطير لأرى العالم من فوق السحاب، لأرى الناس والبيوت بحجمها الطبيعي.
لكن چدتي تعود مرةٍ أخرى، وتناديني بحنو زائد وتمسك بي وتمسح على رأسي، وتمرر أصابعها الطيبة بين خُصلات شعري حتى أنام، فأغفو وأطير في سماء حُلمي حتى الصباح.
بورسعيد | ١١ يوليو ٢٠١٩
تعليقات